صناع البهجه

الجمعة، 12 فبراير 2016

الرئيسية الفرق بين الفن القديم والحديث

الفرق بين الفن القديم والحديث

مات الطرب... عاش الغناء! أم أن العكس صحيح؟ تلك هي جدلية الصراع بين المدارس الغنائية القديمة والحديثة في الوطن العربي. وهي ليست مثار نقاش على مستوى النقد والصحافة الفنية العربيين، وانما على مستوى المعنيين انفسهم بهموم الغناء من موسيقيين ومطربين وشعراء غنائيين، خصوصاً بعدما عمد عدد كبير من المحدثين الى الجرأة في الاقتباس من الثقافات الموسيقية غير العربية بدعوى التطوير والمواكبة.
في بيروت اطلقوا على الأنماط الغنائية المبتكرة حديثاً "الغناء العربي الجديد". وفي القاهرة تشيع عبارة "التطور الطبيعي". وفي المدن الخليجية تسمع كثيراً "الأغنية الشبابية". وقد يسمونها في السودان "الأغنية الحديثة". اما في الاردن فثمة توجس وخوف من ان يأتي يوم يحل فيه الكمبيوتر محل المغني.
الغث والهابط والأصيل
انه صراع بين القديم والحديث تستخدم فيه كل اسلحة المعارك الثقافية. فالأغنية القديمة ليست عند المحدثين سوى تراث، او أنماط موسيقية كلاسيكية. أما لدى جيل الرواد فهي الاصل الذي لا يمكن ان يكون هناك جديد من دونه. وفي عُرفهم ان الجديد من الفنون كلها غث وهابط ولن يكتب له بقاء.
وبين هؤلاء وأولئك يبرز دعاة الوسطية الذين يستخدمون ألفاظاً من قبيل "الأصالة" و "العودة الى المنابع". وترد في هذا السياق دعوات عدة الى الارتكاز على القديم لتعزيز الجديد وتطويره. ويرى العقلانيون من هؤلاء ان الاغنية العربية لا بد أن تكون انعكاساً لأوضاع المجتمع العربي، بما في ذلك من نكسات وهزائم، وغلب وقهر، وتدن في المستويين التعليمي والاجتماعي.
غير ان هذا الجدل المستمر منذ عقود عدة لم يتوصل الى اي اجابات لتساؤلات كثيرة ذات اهمية حيوية وحاسمة، لعل أبرزها: لماذا لا تزال أماكن عباقرة الغناء والموسيقى في أوطاننا شاغرة بعد مرور سنوات عدة على رحيلهم؟ من خلف او سيخلف أم كلثوم وعبدالوهاب؟ من يستطيع ان يحل محل عاصي الرحباني؟ ومن يملأ الفراغ الذي تركه رحيل فريد الأطرش؟
ويبدو أحياناً كأن الصراع بين القديم والجديد يعود فقط الى فترة الانبعاث الحضاري التي عاشتها الأمة العربية إبان محاولاتها للفكاك من أسر الاستعمار، وتشبثها بماضيها وأمجادها لبناء حاضر ومستقبل راسخي الاساس. غير ان استقراء التاريخ يدل بوضوح على ان معارك القدم والحداثة اندلعت منذ زمان بعيد: إذ تساءل صُنّاع الطرب في العصر العباسي عن تأثير نظريات الموسيقى اليونانية في غناء العرب. ودار جدل آنذاك ايضاً حول مدى تأثير الموسيقى الفارسية في الموسيقى العربية.
وفي مستهل القرن الحالي انبرى عدد من المجددين - كالشيخ سيد درويش في مصر، وجوق الرباط للطرب الاندلسي في المغرب، وخليل فرح في السودان - لتنقية موسيقانا من النفوذ التركي الذي سادها إثر بسط الامبراطورية العثمانية سيطرتها على عدد من البلدان العربية.
وتتشعب قضية الجدة والقدم لتتفرّع الى نقاش غير مجد حول التعريف الدقيق والأصح للمفاهيم المهمة في هذا الشأن. وفي مقدم ذلك التساؤل عن أدق المعايير لتحديد مفهوم الحداثة، والمعاصرة. ويتساءل المطرب السوداني محمد عثمان وردي - وهو نقيب المطربين والموسيقيين في بلاده - "هل مهمتنا في الحياة ان نطور القديم فحسب؟" ويتمسك الموسيقي المصري عمر خيرت، في تحد وعناد شديدين، بأن الغلبة ستبقى للقديم.
وتتخذ المعركة بين الاشكال والمضامين الغنائية الحديثة والقديمة طبيعة مختلفة تماماً في بعض البلدان العربية نتيجة ظروف اجتماعية معينة تتعلق بتلك البلدان. ففي لبنان - على سبيل المثال - اكتسب الصراع صبغة جديدة تماماً نتيجة انتشار قنوات التلفزة الفضائية والمحلية، وهيمنة ما يسمى "الأغنية التلفزيونية".
وفي الخليج - باستثناء المملكة العربية السعودية - لا تنحصر القضية في الصراع بين قديم وحديث، لكنها لا تزال تحاول العبور من ازمة الهوية والشكل، وتتأرجح بين استكناه التراث الشعبي واستنباط اساليب للاقتباس من الموسيقى الغربية، وابتكار اشكال شعرية غنائية تستوعب متغيرات العصر.
وفي اليمن يحوّل الموسيقيون والنقاد هموم هذا الصراع الجدلي الى تكريس الطاقات للوصول الى الحلقات المفقودة في العلاقة بين غناء شبه الجزيرة العربية. وتبرز في هذا الجانب مساهمات الناقدين الدكتور نزار غانم وهو نجل العلامة اليمني الراحل محمد عبده غانم صاحب كتاب "شعر الغناء الصنعاني" والاماراتي خالد القاسمي.
اما في السودان فأضحى الصراع صراعاً من اجل بقاء الفن الغنائي نفسه بعدما انتهجت الحكومة السودانية الأصولية نهجاً معادياً له، وحاصرت المطربين والشعراء، وأوصدت ابواب الاجهزة الاعلامية في وجوههم، وحملت الرواد والشبان على ارتياد المنافي والبقاء في ديار الغربة.
وفي نهاية المطاف يبقى السجال بين التجديد والتشبث بالقديم. ويبقى - وهذا هو الأهم - أن لكل من التيارين عشاقه المتحمسين له. وهكذا تواجه الاغنية العربية تحديات القرن الجديد وهي لا تزال تسعى الى حل ازماتها القديمة... عاش الطرب ومات الغناء... أم مات الغناء وعاش الطرب؟
"الوسط" وجهت سؤالين رئيسيين الى المشتغلين بالغناء والموسيقى العرب هما:
* هل هناك علاقة بين القديم والجديد في الاغنية العربية؟
* البعض يقول إن هناك متغيرات صعّدت العلاقة بين القديم والجديد تطاول "ثوابت" الأغنية العربية لحناً وأداء وموضوعاً. ما هو رأيكم في هذا الأمر؟
وتشكل محاولات الاجابة عن هذين السؤالين المحاور الاساسية لهذا الملف.
مصر: مَخَاض أم جدل؟
في القاهرة استطلعت "الوسط" آراء شعراء وملحنين ونقاد مصريين وسوريين ولبنانيين. ومنذ الوهلة الأولى برز تباين آرائهم حول ما ينبغي أن يطلق على العلاقة بين القديم والجديد. وتحدثوا عن "متغيرات"، بعضهم قال انها صعّدت العلاقة الى مستوى الصراع: فالقديم يرى ان الجديد تطاول على "ثوابت" الأغنية العربية، لحناً وأداء وموضوعاً، وعليه ان يعود الى منابعه الاصيلة لكي يحظى بـ "الاعتراف"! والجديد يعتقد ان القديم على وشك الخروج من السياق الموضوعي، لأن الاغنية يفترض ان تواكب القرن الحادي والعشرين بصخبه التقني وثوراته العلمية.
وبعضهم قال ان تلك المتغيرات ادخلت العلاقة بين القديم والجديد في "طور مخاض"، تحتاج الاغنية العربية الى ربع قرن على الاقل قبل ان تغادره، والتسمية الأدق في هذه الحالة: "جدل" ينصهر فيه وقار القديم وخفة الجديد، لينفخا في الاغنية روحاً معاصرة، حتى يكون الأمر "تطوراً طبيعياً" تضاف محصلته الى ثوابت الاغنية العربية.
ذهب الملحن السوري نجيب السراج في حوار مع "الوسط" الى "أن ما يحدث في مجال الاغنية العربية أمر طبيعي، اذا ما اخذنا في الاعتبار تعاقب الاجيال. فالقاعدة ان الفنان في موضع حركة وتطور، وأنا لا أحب ان يبقى الفنان جامداً". وأضاف: الاجيال الحالية لم تعد تستوعب الاغنية الطويلة او الجملة الغنائية المعقدة، وبالمقابل تتوجه الى الغناء السهل الصاخب بالحركة و "الفرفشة"، على كل حال انا من المدرسة التي تنادي بالتطور وملاحقة الجديد مع المحافظة على الاصالة.
وأشار السراج الى ان التطور التكنولوجي الذي اقتحم الموسيقى العربية "افقدها من دون شك الجانب العاطفي، لذا تقف هذه الموسيقى عند حدود الاذن، فيما كانت الموسيقى القديمة تدخل القلب من غير استئذان". وقال: "سينتصر القديم، لأنك لا تستطيع كمتذوق ان تترك خروفاً محشواً لتكتفي بساندويتش".
وأكدت المطربة اللبنانية ميشلين خليفة - بلهجة متفائلة - ان الاغنية العربية "بخير ولا خوف عليها من الموجات الحديثة". وقالت انها ليست ضد التطور: "بشرط ان يبقى النغم الشرقي المألوف بعيداً عن العبث، انا مع كثرة الاغاني دون المستوى، ولا أراها عقبة في طريق مطرب واع وناضج وأمين على تراثه وأصالته".
وأشارت الى تعدد وتباين مستويات الوعي لدى جمهور الاغنية العربية: "ثمة من يريد ان يعيش حاله من خلال الاغنية، اعتقد ان هذا النوع من المستعمين لن يرتاح الا الى الاغنية القديمة، وثمة من يكتفي من الغناء بما يشبه الرقص في حلقة دراويش، ورغم ذلك فلا يوجد صراع بين القديم والجديد. هناك فقط تباين في الأذواق والأمر يحتاج الى ارضاء الكل، والمستفيد الاول هو الاغنية العربية بالطبع"، وأوجزت قائلة: "انا مع القديم المتطور"، الا انها حملت على الاذاعات المسموعة المرئية في العالم العربي واتهمتها بأنها ساهمت في تدهور ذوق الجمهور ولا بد من وجود رقابة صارمة.
أصوات مُخنثة
ونفت الدكتورة رتيبة الحفني ان يكون ثمة "جديد" متبلور، ورأت ان هذه "الأصوات المخنثة" ليس لها طعم، ولا ترقى الى مواجهة الجمهور، ومن ثم فالخطأ لا يكمن فقط في ظهورها وضغطها الملح على الأذن والوجدان، بل في من سمح لأصحابها بالخروج على الملأ، "ومن حق كل انسان ان يعجب بصوته، إلا أن هذه الاصوات يكفيها ان تغني لنفسها ولا بد من اعلان الحرب عليها وبلا هوادة".
وبالمقابل اعلن الملحن المصري أنور عبدالله انحيازه الكامل للأغنية الشبابية، "اذ ان لونها يناسب الشباب وأداؤها يواكب عصر السرعة!"، وتساءل: "لماذا نحرم الشباب من اختيارهم؟ لماذا نحطم احلامهم بانتقاداتنا؟ لقد عشنا جميعاً هذه المرحلة، وسمعنا ما يعجبنا، ولم نكن نقبل ان يصادر مخلوق اختياراتنا لأي دعوى". وطالب بدعم اصحاب الاصوات الشابة معنوياً: "وإذا لاحظنا خللاً فعلينا بالنصيحة، بدلاً من الهجوم والتشنج والثرثرة عن "صراع بين القديم والجديد".
وفيما يعد تأكيداً لوجود هذا الصراع قال الملحن حلمي بكر "لن تنجح محاولات صناع التقاليع في ردم التراث الهائل الذي بناه رواد الاغنية العربية، من سلامة حجازي الى عبدالحليم حافظ مروراً بسيد درويش وعبدالوهاب وأم كلثوم وغيرهم. لن يكون لهؤلاء كيان حقيقي طالما مضوا في طريقهم هذا وتنكروا لجذورهم".
وأشار بكر الى ان الفضول وتنافر الأذواق ساعدا على ازدهار ما سماه "أغنية التقاليع" وأضاف "قبل ذلك كانت الاغنية تعاد مرة ومرتين وثلاث مرات، وكلما أعيدت زاد ارتباط الجمهور بها، وطرب لها وحفظها، وهكذا تكبر وتعيش وتدخل في النسيج الضخم الذي نعشقه حتى الآن، وأعني به التراث".
ورأى الشاعر والأديب السوري جهاد الأحمدية "ان كل التجارب الجديدة محفوفة بصعوبات من جهة تقبل الجمهور، ولن يكون سهلاً على انسان يحكمه المألوف والسائد، استقبال اي شيء جديد يتعارض للوهلة الاولى مع ذوقه، وهنا يأتي دور الملحن، فهو الوحيد القادر على جعل غير المألوف، مألوفاً". وقال انا مع التجديد في الاغنية، على ألا يجور على الروح العربية الاصيلة في الغناء". وكان طبيعياً ان يلخص ازمة الاغنية العربية في "افتقاد الكلمة الجيدة، وهذه مسؤوليتنا كشعراء".
التعدي على التراث
واستبعد الشاعر الغنائي المصري عبدالسلام أمين ان تكون الازمة قاصرة على "الكلمة"، وأحال من جديد الى "انكار وتجاهل الاصول الشرقية في الغناء، والتعدي على تراث سيد درويش وسلامة حجازي وأم كلثوم وعبدالوهاب وغيرهم"، وقال "ان الدراسة الجادة لمجهودات هؤلاء الرواد والمناخات الأدبية والفكرية التي احتضنتهم كفيلة بالقضاء على تلك الموجة الصاخبة التي طفت على السطح منذ السبعينات ونشط مطربوها وملحنوها وكتابها خلال الثمانينات".
اما المطرب السوري مجد القاسم فقد نحا بتقويم العلاقة بين القديم والجديد في الاغنية العربية، منحى اكثر اتساعاً "ما يحدث في مجال الاغنية ليس سوى صورة مصغرة لانهيار الكتل والتحالفات والقوميات الكبيرة، لقد ادى ذلك، وان بصورة غير مباشرة، الى بروز الموسيقى الصاخبة، ربما كمعادل لهذا الانهيار، غير انها طفرة الى زوال طالما ان الاستقرار من طبائع الامور ولن يبقى سوى الكلمة المميزة واللحن المميز".
ويضع القاسم مسؤولية مباشرة على عاتق الجمهور العربي "لأنه سمح لشعراء غير موهوبين بترويج مضامين سطحية، ضاعت تفاصيلها في صخب اللحن وزوابعه" فيما يشكل الملحن اللبناني فؤاد عواد في وجود "توجهات تهدف الى زعزعة الفن العربي"، وتساءل: لا اعرف ما الهدف من تصوير العلاقة بين القديم والجديد كما لو انه صراع، هناك من يتحدث عن ضرورة تطوير الاغنية العربية، ولكن من دون علم، والتطور برأيي لا بد ان يتصل بالجذور، لا ان يكون وليد لحظته، لقد طور عبدالوهاب كثيراً، لكنه لم يُخل بروح الموسيقى العربية الاصيلة، وهذا هو عين الصواب". وأضاف "ليست القضية ان نحدد اذا كانت العلاقة صراعاً أم جدلاً أم تطوراً طبيعياً. القضية ان نسأل الحكومات العربية: ماذا فعلت للموسيقى والغناء منذ مؤتمر العام 1932؟ وما هو الدور الذي يمكن ان تلعبه ازاء تفشي الظواهر الاستهلاكية في الغناء العربي وغلبة الرقص على وقار القديم وجديته؟".
اما الموسيقار المصري عمر خيرت فلم ينزعج ازاء ما يحدث الآن في مجال الاغنية العربية، فقد قال "ستظل الغلبة للقديم على الرغم من المناخ المعاكس، اذ ليس هناك مطربون، بل مؤدون، باستثناء قلة، ونحن بصدد مرحلة انتقالية، شأن كل مجتمعات الغناء، اذ تتغلب عوامل السوق". وأضاف "بعض انواع الموسيقى الحالية لا يعدو ان يكون مجرد فهلوة او تقليداً أعمى للغرب، وكلام الاغنية يفصل على مزاج المطرب"!
اما المطربة أنوشكا فترى ان ما يحدث الآن "تغير في شكل التوزيع الموسيقي، فيما المضمون الغنائي كما هو"، وأكدت "من فات قديمه تاه"، لكنها اشارت الى ان سمة العصر الذي نعيشه هي السرعة في اللحن والأداء"، "انما من دون الغاء المشاعر". وتساءلت أنوشكا وهي من ابرز المطربات الشابات في مصر وأكثرهن صيتاً في الخارج: لماذا يطالب "القديم" بعدم استخدام التقنيات الحديثة في مجال الغناء، على الرغم من انها اقتحمت كل المجالات والمهن الاخرى؟ إن الآلة الموسيقية مهما بلغت من تعقيد وتقدم لا قيمة لها من دون المشاعر".
ووصفت أنوشكا موقف الجيل القديم من هذه التقنيات الحديثة بأنه "نوع من الفذلكة"، وأكدت "ليس ثمة صراع لأن الجديد ابن شرعي للقديم، قائم ومستمر على الأسس والثوابت نفسها لكنه يضع اعتباراً لمعطيات العصر، وهذا ليس عيباً". غير ان انوشكا تقر بأن الاغنية القديمة تتفوق على الجديدة من حيث الاهتمام بالقضايا الوطنية، وتتساءل: "وهل توجد الآن قضية وطنية؟ مجرد سؤال".
ويعزو المطرب محمد ثروت عدم استقرار ساحة الغناء العربي وارتباكها، الى الاحوال السياسية في المنطقة" فنحن لم نتفق على ما اذا كانت علاقة القديم بالجديد، صراعاً أم جدلاً ام تطوراً طبيعياً"، واعتبر ثروت ان دخول التقنيات الحديثة مجال الاغنية في عالمنا العربي "كان وبالاً عليها لأنها استخدمت بغير منطق او علم، وربما لأغراض تجارية"، وأكد ان الجمهور معذور "فالناس على الرغم من همومها ومشاكلها تستقبل الاغنية بشغف، بغض النظر عن مستواها". وأشار ثروت الى حقيقة "ان الفن يعيش الآن أسوأ فتراته، لا في الاغنية فقط، بل في المسرح والسينما وغيرهما من المجالات".
ووصف ما يحدث الآن على ساحة الفن بأنه عبث "وستدفع الأجيال المقبلة ثمن هذا الاستهتار! ولك ان تتصور طفلاً تربى على السوقية والعشوائية وباسم من؟ باسم التكنولوجيا، ان الازمة الحقيقية تكمن برأيي في هذا الموقف السلبي لكبار الموسيقيين العرب، اذ تركوا ساحة الغناء للصبية وأصحاب المهن الصغيرة لكي يعبثوا بوجدان الناس وعواطفهم، وربما تنقضي سنوات طويلة قبل ان تعود الامور الى نصابها".
واذا كان القديم يحقق رواجاً جماهيرياً، فالأمر - كما تقول المطربة عفاف راضي - "قاصر على نخبة ضيقة من المستعمين" وهذا يعني بالمقابل ان دائرة الاغنية الهابطة تنفتح في كل الاتجاهات، لذا تفرض نفسها بمنتهى السهولة. هل هو اذن صراع غير متكافئ؟ تقول عفاف: لا اظن ان من الحكمة وصف علاقة القديم بالجديد بأنها صراع لسبب بسيط هو ان كفة الجديد أخف بكثير، فكل الدراسات النفسية تقطع بأن جمهور الغناء الهابط يعاني ما يشبه غياب الوعي، فكيف يكون صالحاً للقياس؟
ايضاً تستنكر المطربة الكبيرة هدى سلطان وجود هذا الصراع من اساسه: "الأصوات الجديدة كما ترى مملة، متزاحمة، ومتشابهة، حتى انك لا تستطيع ان تميز بينها مهما بلغت قدرتك على التذوق"، وأكدت هدى سلطان ان ذوق المستمع العربي سيظل صامداً لأنه تأسس على تراث من الروائع الغنائية التي لا يمكن ان تغادر الذهن والقلب، وأوضحت "كان المطرب في ما مضى يعاني في الاعداد للأغنية، وفي البروفات واختيار الكلمة واللحن، وكان يقدم بعد ذلك اغنية واحدة او اثنتين في العام، فكيف نضع كل هذا في مواجهة مع سيل الاغنيات التافهة الذي نسمعه الآن؟".
الجيل المظلوم
ونيابة عن القلة التي يمكن استثناؤها، هتف علي الحجار: "جيلنا مظلوم"! وأوضح: "في كل ذكرى لأم كلثوم او عبدالحليم يتهمنا كبار الملحنين، بأن هذا الجيل ليس فيه ما يدعو الى الاهتمام، لماذا؟ فقط لأننا لا نلتقي فكرياً او فنياً مع الاجيال التي سبقتنا، نعم، فثمة فجوة كبيرة بيننا وبينهم"!
وقال: لا أخفيك ان الفرحة لا تكاد تسعني كلما نجح ألبوم جديد لأحد أبناء جيلي، او حصل أحدنا على جائزة من مهرجان غنائي. نحن لا نفتقد القدرة على اثبات وجودنا واذا كان لا بد من صراع، فلدينا ما يطمئننا: الصيت والجماهيرية والمستوى الذي يليق بكوننا - شئنا أم أبينا - أبناء شرعيين لتراث يمتد من سلامة حجازي الى عبدالحليم حافظ.
أما أحمد الحجار، الملحن والمطرب الذي برز في السنوات الاخيرة، والشقيق الأصغر لعلي الحجار، فيقر بأن الصراع بين القديم والجديد في الاغنية "من صنعنا نحن، والمفروض ألا يكون هناك صراع، بل امتداد لكن ذلك مع الأسف لا يحدث"، ويضرب مثلاً بلجنة الاستماع التابعة للاذاعة المصرية، والمنوطة بتقديم الاصوات الجديدة: "كل اعضاء هذه اللجنة من الجيل القديم، وهم بحكم عملهم في حقل الاغنية، كتاباً او ملحنين يحرصون على مقاعدهم وينحازون في الوقت نفسه لاتجاهات محددة في الاغنية، ليسوا مستعدين لدعم ما عداها" وهو يرى ان هؤلاء يحتاجون الى وقت طويل لكي يستوعبوا الجديد في مجال الغناء والموسيقى، وبعضهم يغامر بدخول السباق، فيرتبك "وأعتقد ان سيد درويش وعبدالوهاب ومن في ثقلهم هم القادرون وحدهم على هضم اي تطور جديد في مجال الاغنية".
ويشير الحجار الى ان ثمة تحسناً ملحوظاً في العلاقة بين الآلات الموسيقية الشرقية والآلات الغربية، وبمرور الوقت تستطيع الأذن العربية ان تألف نوعاً من التزاوج بينهما، ويقول: "ان الصراع إذا لم يكن منه بد، ينبغي ان يكون صراعاً بيني وبين نفسي، وان يكون الهدف منه تطوير ادواتي كمطرب، وهذا هو الصراع الحقيقي، اما المنافسة الشريفة فلا أؤمن بها ولا تقنعني، لأن لكل منا ما يميزه، والأدق اننا نكمل ما بدأه السابقون، وأظن انهم في الغرب يفعلون ذلك". إلا ان أحمد الحجار يعود ليتساءل: "لماذا نسجن انفسنا في القديم؟ لقد تغير الزمن، والقديم لم يبلغ القمة التي بلغها الا بعد انقضاء عدد هائل من السنوات قد يصل الى ربع القرن، ولا أعرف لماذا يستعجلوننا". ويؤكد ان الاحداث السياسية الاخيرة اسقطت الكثير من الظواهر غير الصحية في مجال الاغنية، وجعلت الجمهور يسعى الى رد الاعتبار الى تقاليد الغناء الاصيل، "رغم ان الاغنية الحديثة تولي اهتماماً كبيراً لعنصر الصورة على حساب العناصر الاخرى في بعض الاحيان. فإن انتاج شركات الكاسيت - بالمقابل - ينحو الآن الى تغليب الوتريات، ولا يكتفي بالايقاعات التي عادة تغازل سخونة الجسد، ألم أقل لك اننا في اول الطريق الصحيح؟".
وقال الشاعر المصري عبدالرحمن الأبنودي انه لا يشك في ان الصراع بين القديم والجديد "ظاهرة صحية تدل على حيوية المجتمع وطموحه المستمر، وهو ما يعتبر نوعاً من تطوير الادوات". غير انه استدرك قائلاً: لكن ما يحدث الآن في مجال الاغنية العربية، ليس على وجه التحديد صراعاً حقيقياً بين القديم والجديد، وان بدا ظاهرياً كذلك.
وأضاف الابنودي: مع مرحلة الانفتاح الاقتصادي في مصر بحكم تراكم الاصوات وطول تاريخ الغناء عبر الراديو والاسطوانة والفيلم، اندفعت الاغنية بسرعة الصاروخ لكي تغير من كينونتها ووظائفها وأرديتها، ولتصبح مرة اخرى سلعة استهلاكية ترفيهية تافهة، وكما يحاول تاريخ مصر الحديث نسيان انجازاته الثورية على صعيد الوطن الصغير او على صعيد الامة ككل، او حتى على مستوى بلدان العالم الثالث، ويعتبرها عاراً ويحاول شطبها من ذاكرة الاجيال القديمة ويمنع وصولها الى الاجيال الحديثة، فإنه يفعل ذلك ايضاً في كل مجالات الفن، فمسرح الستينات وسينما "الدولة" والاغنية التي شاركت في كل معارك الامة المصيرية، اصبحت عورة وأسدل عليها ستائر النسيان، وانطلقت وحوش السوق الطفيلية تتاجر بهذه السلعة الجديدة القديمة، ونجحت بالفعل في صنع غناء خاو من المضمون، يعتمد اساساً على الايقاع الاوروبي الصاخب والراقص، الذي تتشابه فيه الألحان، ويبدو الأمر كما لو ان شخصاً واحداً هو الذي ينتج هذه الآلاف المؤلفة من الاغنيات، وهي اغنيات لا تثبت في الذاكرة ولا تلامس الضمير او العاطفة الحقيقية للانسان العربي، بل اشبه بعقب سيجارة، دخنها المرء في لحظة وانتهى منها الى الأبد".
واستطرد الابنودي ان كل ذلك أدى الى انكماش المجموعة القديمة "فبنشر هذا المناخ السمعي وتحول الاغنية - بفضل التلفزيون - الى فن بصري يعتمد على الايقاع والرقص البهلواني، تراجع النص ليس فقط الى المرتبة الثالثة، بل الى خارج الاغنية، وصارت الاغنية تطير في الهواء بلا ثقل حقيقي، ولم يعد جمهورها قادراً على التوقف امام المعنى لأنه يلاحق الايقاع. واشار الابنودي الى ان ثمة مطربين كباراً "صدقوا ان العصر تغير الى الأبد، فانزلقوا الى المستوى نفسه، وهناك من اعتقد من الجمهور انهم قد اعتزلوا رغم انهم لم يعتزلوا، وكان لا بد ان يظهر جيش من المؤلفين غير الموهوبين والملحنين الذين لا يحتاجون بالفعل الى التلحين فضلاً عن الاصوات التعيسة وهؤلاء جميعاً اختبأوا وراء الايقاع الصاخب للأغنية الجديدة، بدعوى ان هذه هي اغاني الشباب، وان عصر "يا ليل يا عين" قد ولى، والحقيقة ان الصراع ليس مع الـ "يا ليل يا عين" لأنها انتهت بالفعل منذ نصف قرن، انما هو صراع بين التفاهة والجدية، بين من يؤمن بالكسب السريع والمتاجرة في السلع "المضروبة" والطعام المغشوش ومن يؤمنون بأن للفن وظيفة حقيقية في بناء عقل ووجدان هذه الأمة".
وعلى رغم الجدل الذي يدور في الاوساط الموسيقية والغنائية العربية حول هجمة الموسيقى الجديدة السريعة الصاخبة فإن القلة لا ترى غرابة في الأمر. ويعتقد هؤلاء ان من الطبيعي ان تتحول الموسيقى ايقاعاً والغناء هتافاً وصراخاً في ظل التغيرات التي حدثت على الصعيدين الاقليمي والدولي خلال السنوات الماضية.
وتشير الدكتورة عزة كريم الخبيرة في المركز القومي للبحوث في مصر الى ان الفن يعبر تعبيراً صادقاً عن التغيرات التي تحدث في المجتمع وان أمزجة افراد المجتمع تتغير حسب تغير الظروف الاجتماعية المحيطة. وتؤكد: الاغاني الهابطة والسينما ايضاً "هايفة" ولا يمكن فصل هذا عن ظروف المجتمعات العربية التي تعاني مشكلات اجتماعية واقتصادية عدة أدت الى التنافس والصراع داخل المجتمع الواحد نتيجة كثرة عدد السكان وانخفاض مستوى المعيشة، الامر الذي انعكس في صورة توتر لدى الافراد وتسرع في الأداء.
وتضيف: من هنا بدأت الموسيقى تأخذ الشكل الذي يتلاءم مع طبيعة المجتمع، فالأغنية الآن قصيرة سريعة والموسيقى صارت ايقاعية وصاخبة كما ان كلمات الاغاني صارت هابطة ومع ذلك لقيت رواجاً نتيجة تعرض الشباب لضغوط كبيرة أدت الى اللجوء الى الفرار من تلك الضغوط الى اشياء تافهة. ولا ترى الدكتورة كريم ان تحول الأذواق ناتج عن كون المستعمين صاروا يتصفون بالتفاهمة ولكن لأن مشكلاتهم هي التي أدت الى تحولهم الى سماع التفاهات. لكنها اشارت الى "ان الموسيقى العربية اختلطت بالموسيقى الغربية نتيجة لزيادة اختلاط ودخول العنصر الزمني الى مجتمعاتنا العربية من خلال وسائل الاعلام المسموعة والمرئية، اضافة الى زيادة نسبة التعليم الاجنبي الامر الذي أدى الى امكان تذوق الفن الاجنبي لكن الدكتورة عزة كريم تضيف عنصراً آخر وهو الرغبة في تقليد الغرب: نحن نعتقد ان الغرب ملاذ التقدم والحضارة والمكان الوحيد الذي نجد فيه حلولاً لمشاكلنا وصار تقليد الغرب مدعاة الى التباهي والافتخار".

هناك 7 تعليقات:

  1. نعم كل هذا الكلام صحيح عن جد كلام رائع❤

    ردحذف
  2. نعم كل هذا الكلام صحيح عن جد كلام رائع❤

    ردحذف
  3. نعم كل هذا الكلام صحيح عن جد كلام رائع❤

    ردحذف
  4. جمييييييل جداااا و خيرت كبيرة

    ردحذف
  5. Nice جميل شكرا جزيلا

    ردحذف

يتم التشغيل بواسطة Blogger.